إعلان 4

الخميس، 7 يوليو 2016

أصحاب القبور

قال صدفة بن مرداس البكري: نظرت إلى ثلاثة قبور على مشرف من الأرض مما يلي بلاد طرابلس، وعلى كل واحد منها شيء مكتوب، وإذا هي قبور مُسنَّمة على قدر واحد مصطفة بعضها إلى جنب بعض ليس عندها غيرها، فعجبت منها ونزلت إلى القرية
القريبة منها، فقلت لشيخ جلست إليه: لقد رأيت في قريتكم عجبًا، قال: وما رأيت؟ فقصصت عليه قصة القبور، قال: فحديثهم أعجب مما رأيت، فقلت: حدثني بأمره، قال: كانوا ثلاثة إخوة، أحدهم أميرًا كان يصحب السلطان ويأمر على المدائن والجيوش،
والثاني تاجرًا موسرًا مطاعًا في ناحيته، والثالث زاهدًا قد تخلى بنفسه وتفرد لعبادة ربه، فحضرت المنية أخاهم العابد، فاجتمع عند أخواه، وكان الذي يصحب السلطان قد وُلِّي بلادنا هنا، وكان قد أمره عليها عبد الملك بن مروان وكان في إمرته ظالمًا غشومًا، فلما حضرا عند أخيهما قالا له: ألا توصي؟ قال: ولله ما لي مال أوصيبه، ولا لي على أحد دين فأوصي به، ولا أخلف من الدنيا شيئًا فأسلبه، فقال له أخوه الأمير: يا أخي، قل ما بدا لك وما تشتهيه أن يُفعل، فهذا مالي بين يديك فأوصِمنه بما أحببت واعهد إليَّ بما شئت لأفعله، فسكت عنه ولم يجبه، فقال أخوه التاجر: يا أخي، قد عرفت مكسبي وكثرة مالي، فلعل في قلبك حاجة من الخير لم تبلغها إلا بالاتفاق، فهذا مالي بين يديك فاحكم فيه بما أحببت لأنفذه لك، فأقبل عليهما وقال: لا حاجة لي في مالكما، ولكن أعهد إليكما عهدًا فلا يخالفني فيه أحد، قالا: اعهد، قال: إذا مت فغسِّلاني وادفناني على مشرف من الأرض واكتبا على قبري هذا الشعر: 

وكيف يلذُّ العيشَ من هو عالِمٌ ... بأن إلهَ الخلق لا بُدَّ سائِلُهْ


فيأخُذُ مِنهُ ظُلْمَه لعباده ... ويجزيْهِ بالخير الذي هو فاعِلُهْ

ثم قال: فإذا فعلتما ذلك فأتياني كل يوم مرة على ثلاثة أيام متوالية لعلكما تتعظان بي.
فلما مات فعلا ذلك، فكان أخوه الأمير يركب كل يوم في جنده حتى يقف على القبر فيقرأ ما تيسر ويبكي، فلما كان في اليوم الثالث جاء كما كان يجيء مع جنده فنزل وبكى، ولما أراد الانصراف سمع أنَّةً من داخل القبر كاد يتصدع لها قلبه، فقام مذعورًا فزعًا، فلما كان في الليل رأى أخاه في منامه فقال: يا أخي، ما الذي سمعته من داخل قبرك؟ فأجاب: أخُبرت أنك رأيت مظلومًا فلم تنصره ولكن استعد لملاقاتي، قال فأصبح مهمومًا، ودعا أخاه وخاصته وقال: ما أرى أن أخي أراد بما أوصانا أن نكتبه على قبره غيري، وإني أشهدكم أني لا أقيم بين أظهركم، وترك الإمارة ولزم العبادة، فكتب
أصحاب عبد الملك بن مروان إليه في ذلك فكتب أن خلُّوه وما أراد، فصار يأوي الجبال إلى أن حضرته الوفاة في الجبل وهو مع الرُّعاة، فبلغ ذلك أخاه، فأتاه وقال: يا أخي، ألا توصي؟ فقال: ما لي من مال فأوصي به، ولكن أعهد إليك عهدًا: إذا أنا مت وجهزتني
فادفنني بجانب أخي واكتب على قبري هذين البيتين:

وكيف يلذُّ العيشَ من كان موقِنا ً ... بأن المنايا بغتة ًستُعاجِلُهْ


فَتَسْلِبَهُ مُلْكَا ً عظيما ً ونِعْمَة ً ... وتُسْكِنَه القبرَ الذي هو آهِلٌهْ

قال: ثم توافيني ثلاثة أيام بعد موتي فادعُ لي لعل لله يرحمني.
فلما مات فعل به أخوه ذلك، فلما كان اليوم الثالث من إتيانه جاء على حسب عادته وبكى عند قبره، فلما أراد الانصراف سمع رجَّةً في القبر كادت تذهب بعقله، فرجع مقلقلًا، فلما كان في الليل إذا بأخيه قد أتاه في منامه، قال: فحينما رأيته وثبت إليه
وقلت: يا أخي، أأتيتنا زائرًا؟ قال: هيهات يا أخي، بَعُد المزار فلا مزار وقد اطمأنت بنا الدار، فقلت: كيف يا أخي؟ قال: ذاك مع أئمة الأبرار، قلت: وما أمرنا عندكم؟ قال: من قدَّم شيئًا من الدنيا وجده، فاغتنم وجودك قبل فقدك.
قال: فأصبح أخوه معتزلًا من الدنيا متخلفًا عنها، ففرَّق أمواله وقسَّم أرزاقه وأقبل على طاعة لله عز وجل، ونشأ له ابنٌ حسن الشباب والهيئة، فاشتغل بالتجارة، فحضرت أباه الوفاة فقال له: يا أبتِ، ألا توصي؟ قال: يا بني ما بقي لي مال لأوصيبه، ولكن إذا
أنا مت فادفنني إلى جنب عمومتك واكتب على قبري هذين البيتين:

وكيف يلذُّ العيشَ من هو صائِرٌ ... إلى جَدِثٍ تُبلي الشَّبابَ منازِلُهْ


ويَذْهَبَ حُسنِ الوجه من بعد موته ... سريعا ً ويَبْلى جسمه وقائِلُهْ

وإذا فعلت ذلك فقاعدني بنفسك ثلاثًا وادعُ لي، ففعل الفتى، فلما كان في اليوم الثالث سمع من القبر صوتًا اقشعر له جلده وتغيَّر لونه ورجع مصفرٍّا إلى أهله، فلما أتاه الليل أتاه أبوه في منامه وقال له: يا بني، أنت عندنا عن قريب، والأمر ناجز، والموت
أقرب من ذلك، فاستعد لسفرك وتأهب لرحلتك، وحوِّل جهازك من المنزل الذي أنت عنه ظاعن إلى المنزل الذي أنت فيه مقيم، ولا تغتر بما اغتَّر به قبلك الغافلون من طول آمالهم فقصَّروا عن أمر ميعادهم، فندموا عند الموت أشد الندامة، وأسفوا على تضييع العمر أشد الأسف، فلا الندامة عند الموت تنفعهم ولا الأسف على التقصير ينقذهم من شر ما يلقاه  المغبونون يوم الحشر، فبادر ثم بادر ثم بادر. فدخلت على الفتى ثاني يوم فقصها عليَّ وقال: ما أرى الأمر إلا وقد قرب، فجعل يوزع ماله ويتصدق ويقضي ديونه ويستحل من خلطائه ومعامليه، ويقول: قال أبي هي ثلاث « بادر ثم بادر ثم بادر » فإمّا أن تكون ساعات، فقد مضت أو ثلاثة أيام وأنَّى لي بها وما أراني أدركها، أو ثلاث سنين وهو أكثر ذلك، فلم يزل يقسم أمواله ويتصدق حتى إذا كان في اليوم الثالث من ليلة هذه الرؤيا دعا أهله فودَّعهم ثم أغمض عينيه ومات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق