إعلان 4

الجمعة، 15 يوليو 2016

عمر وأعرابي

 وعن أبي بكرة أن أعرابيا وقف على عمر بن الخطاب فقال:

يا عمرَ الخير جُزيت الجنه ... أُكسُ بُنياتي وأُمَّهُنَّه
وكن لنا من الزّمان جُنَّه ... أُقسم بالله لَتفعلنَّه

فقال عمر: وإِن لم أَفعل يكون ماذا؟ فقال:

 إِذاً أَبا حفصٍ لامضينَّه

قال: فإِن مضيتَ يكون ماذا؟ فقال:

والله عنهنَّ لتُسأَلنه ... يوم تكون الاعطيِات منَّه
وموقفُ المسؤول بينهنّه ... إِما إِلى نارِ وإِمَّا جَنَّه

فبكى عمر حتى اخضَلَّت لحيتُه ثم قال لغلامه: يا غلام أَعطِه قميصى هذا لذلك اليوم لا لشعره ثم قال: والله لا أَملك غيره.

كلمات ترد اسما وفعلاً وحرفاً


من العجائب اللغوية كلمات ترد اسما وفعلا وحرفا، وهي أكثر من عشرين كلمة ذكر منها الجمال السُّرَّمَرِّي ثلاثاً حين قال: 

إذا طارح النحويُّ أيةُ كِلْمَة                        هي اسم وفعل ثم حرف بلا مرا
فقل هي إن فكرت في شأنها (على)               و(في) ثم (لما) ظاهر لمن اقترا 
غدت من (عليه) قد (علا) قدر خالد            (على) قدر عمرو بالسماحة في الورى
وقل قد سمعت اللفظ من (في) محمد  (وفي) موعدي يا هند لو كنت (في) الكرى
و(لمّا) رأى الزيدان حالي تحولت    إلى (شعث (لما) فـ(لما) أخف عرى
مواردها تنبي بما قد ذكرته                          وإن لم أصرح بالدليل محررا

       ثم جاء الإمام السيوطي فأوصلها إلى عشرين كلمة!! وذلك في كتابه الشهير"الأشباه والنظائر"، ونظمها قائلاً: 

وردت في النحو كِلْمات أتت                             تارة حرفا وفعلا وسُما
وهي (من) و(الهاء) و(الهمز) و(هل)           (رب) و(النون) و(في) أعني فما
(عل) (لما) و(بلى) (حاشا) (إلى)                    و(على) و(الكاف) فيما نظما
و(خلا) (لات) و(ها) فيما رووا                          و(إلى) (أَنَّ) فرَوِّ الكلما

وترك الإمام السيوطي (حتى) فلم ينظمها، و الكلمات هذه هي التالية: 

على: حرف جر كما في قولك: وقفت عليه،  اسم بمعنى فوق كما في قول العرب: مررت من عليه، لأنّ حروف الجر لا تدخل على بعضها، وفعل بمعنى ارتفع، كما في قولك: إذا ما علا المرء رام العلا

في: حرف جر معروف كما في قولك: في البيت، واسم بمعنى الفم، كما في الحديث: تخرج من في السقاء، وفعل أمر للمؤنث من الوفاء: في موعدي يا هند

لمّا:اسم ظرف في قولك: لمّا جاء، وحرف نفي جازم بمعنى لم، وفعل ماضٍ للمثنى من لمَّ المتفرق.

مِنْ: حرف جر واضح، واسم بمعنى بعض، في قوله تعالى:" فأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَمَرَاتِ"، وفعل أمر من ما نأي كذب.

الهمزة:حرف استفهام، واسم في قول من قال: حروف النداء أسماء أفعال، وفعل أمر من وَأَى أي وعد.

الهاء:اسم ضمير واضح، وحرف في قولهم: إياه، وفعل أمر من وهى يهي أي ضعف.

هل:حرف استفهام، واسم فعل في قولهم: حيهل، وفعل أمر من وهل يهل، أي سَهَا.

ها:حرف تنبيه، واسم فعل بمعنى خذ، وزجر للإبل بالمدِّ والقَصْر، وفعل أمر من هاء يهاء، أي فرح.

حاشا:حرف استثناء، ومصدر بمعنى التنزيه، ولهذا نونه بعضهم، وفعل ماض بمعنى أستثني.

النون:نون الوقاية حرف، ونون النسوة ضمير اسم، وفعل أمر من ونى يني أي فتر.

الكاف:حرف جر، واسم لدخول الكاف عليها شذوذا في الشعر، وفعل أمر من وكى يكي.

علَّ:حرف لغة في لعل، واسم للقراد المهزول والشيخ المُسِن، وفعل ماضٍ أي سقى مرة بعد مرة.

بلى:حرف جواب، واسم مقصور من البلاء أو هو لغة فيه، وفعل ماض بمعنى أختبر.

أنّ: حرف توكيد، ومصدر من الأنين، وفعل ماض من الأنين أيضا.

ألا:حرف استفتاح، واسم بمعنى نعمة مفرد آلاء، وفعل ماض بمعنى قصَّر أو استطاع.

إِلَى:حرف جر واضح، واسم بمعنى نعمة مفرد آلاء أيضا، وفعل أمر للمثنى من وأل أي لجأ.

خلا:حرف استثناء، وفعل ماض كما في قوله تعالى {وإذا خلا بعضهم إلى بعض، واسم للرطب من الحشيش وكذا مقصور من الخلاء.

لاتَ:حرف نفي بمعنى ليس، واسم للصنم، وفعل ماض بمعنى صرف.

 حتى:حرف جر وغاية، واسم علم لامرأة، وفعل ماض للمثنى من الحت وهو القشر.


جملة تقرأ من اليمين بمعنى ومن اليسار بمعنىً آخر

ومن عجائب اللغة العربية جملة تقرأ من اليمين بمعنى ومن اليسار بمعنىً آخر و قد جاءت في قصة رجل من المسلمين أسره الروم فلما طلبوا منه إرسال رسالة إلى قائد المسلمين ليشجعه على القدوم إليهم - وكان الروم قد نصبوا للمسلمين كميناً- فكانت الرسالة هذه الجملة فقط فإن قرأت من اليمين كان كما أراد الروم وإذا قرأت من الشمال كان تحذيراً للمسلمين، ونصّها هو: "نصحت فدع ريبك ودع مهلك ". فإذا عكست القراءة كانت كما يأتي:"  كلّهم عدوّ كبير عُد فتحصّن".

أيات ذكر الطعام فيها


 شيخ من الصوفية يعرف بأبي الخير من ساكني الدينور، كان الصاحب - رحمه الله - يأنس به ويحسن إليه، وكان شيخاً خفيف الروح، كثير النودار، مع ورع وسداد، يرجع إليهما، وكان حافظاً للقرآن، فكان قد جمع كل آية فيها ذكر الأكل، فكان إذا ذكر الطعام وحضر وقته قف بين يدي الصاحب، وقرأ كل آية يتصل بها " كلوا " ويقف عليه، فإذا دخل شهر رمضان وصام الناس وقف على " لا تأكلوا " . فكان يقول إذا أبطأ عنه الطعام، وحضر وقت الغداء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

" اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا " ،
" وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا "
" وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا "
" وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم كلوا "
" كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار. يا أيها الناس كلوا "
" ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون. يا ايها الذين آمنوا كلوا "
" أحل لكم ليلى الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا " 
" وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه "
" أحل لكم الطيبات وما علّمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا "
" يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا "
" إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. فكلوا "
" وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا "
" وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا "
" ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا "
" يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا "
" وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا "
" وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا "
" لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا " .
" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي " .
" ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون. فكلوا " .
" وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً. فكلي " .
" وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى. كلوا " .
" قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى. كلوا " .
" ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا " . " وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين. يا أيها الرسل كلوا " .
" والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا " .
" لقد كان لسبأ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال فكلوا " .
" إن المتقين في جنات ونعيم. فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم. كلوا " .
" هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا " .
" إن المتقين في ظلال وعيون. وفواكه مما يشتهون. كلوا " .
" إنا كذلك نجزي المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين. كلوا " .
" فهو في عيشة راضية. في جنة عالية. قطوفها دانية. كلوا " .
" إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب. ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون "
" فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين يأكلون " .
" وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون " .
" ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل " .
" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون " .
" ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا " .
" هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا: نريد أن نأكل " .
" فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين. وما لكم ألا تأكلوا " .
" يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون " .
" ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. ذرهم يأكلوا " .
" ليس عليكم جناح أن تأكلوا " .
" وما أرسلنا قبلك من المرسلين ألا إنهم ليأكلون " .
" وما جعلناهم إلا جسداً لا يأكلون " .
" وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون " .
" وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " .
" إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون " .
" وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون " 
" فتولوا عنه مدبرين. فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون " .
" فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين. فقربه إليهم قال ألا تأكلون " .
" هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فأكلا " .


وكان يقرأ في شهر رمضان:

" تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون. ولا تأكلوا " .
" ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم. يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا " .
" وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا " .
" فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم بأموالهم ولا تأكلوها " .
" يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفاً. يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا " .
" إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون. ولا تأكلوا " .

الدنيا

قال بعض البلغاء: الدنيا إن أقبلت بَلَتْ، أو أدبرت برت، أو أطنبت نبت، أو أركبت كبت، أو بهجت هجت، أو أسعفت عفت، أو أينعت نعت، أو أكرمت رمت، أو عاونت ونت، أو ماجنت جنت، أو سامحت محت، أو صالحت لحت، أو واصلت صلت، أو بالغت لغت، أو وافرت فرت، أو زوجت وجت، أو نوهت وهت، أو ولهت لهت، أو بسطت سطت!!

القصيدة اللاكنية


هي القصيدة التي أنشدها الصاحب لعضد الدولة فنّاخسرو، وقد عُرفت بالقصيدة اللاكنية، لكثرة ما كرّر فيها (لكن) وأولها:


أشبِّبُ لكنْ بالمعالي أشبِّب

وأنسبُ لكنْ بالمفاخر أنسِبُ

ولي صبوةٌ لكنْ إلى حضرة العُلا

وبي ظمأٌ لكنْ من العِزِّ أشربُ


الصدقات الجارية


أنواع الصدقات الجارية نظمها السيوطي شعراً فقال:


إذا مات ابن آدم ليس يجري

عليه من فعالٍ غيرُ عشرِ

علومٍ بثَّها ودُعاءِ نجلٍ

وغرسِ النخلِ والصدقات تجري

وراثةُ مصحفٍ ورباطُ نفرٍ

وحفرُ بئرٍ أو أجراه نهرِ

وبيتٌ للغريب بناه يأوي

إليه أو بناءُ محلِّ ذكرِ

وتعليمٌ لقرآنٍ كريمٍ

فخذها من أحاديث عصرِ

دعاء غريب

  ودعا رجلٌ لـملك فقال: جعل الله قوّتك قوّة نملة،وجرأتك جرأة ذبابة، وكيدك كيد امرأة. فغضب الـملك فقال له الرجل: على رسلك أيـها الـملك، إنه يبلغ من قوّة النملة أن تحمل أضعاف وزنها، ومن جرأة الذباب أن يقع على أنوف الـملوك، ومن كيد الـمرأة أن تغلب دهاة الرِّجال، فسكن عن الـملك الغضب.

ظلامة

 تظلّم أحدهم من عامله فقال: ما ترك فضة إلا فضّها، ولا ذهباً إلا أذهبه، ولا غلّة إلا غلّها، ولا غنماً إلا غنمها، ولا فرساً إلا افترسه، ولا عقاراً إلا عقره، ولا ضيعة إلا ضيّعها،ولا سيداً إلا استبدَّ به.

أنواع الإخوان

  كان يوسف بن أبي السباح يقول: مثل الإخوان كالسلاح. فمنهم مَنْ هو كالرمح تطعن به من بعيد ثم يعود إليك، ومنهم مَنْ هو كالسهم ترمي به من بعيد ولا يعود، ومنهم مَنْ هو كالمِجَنّ تتقي به من النوائب، ومنهم مَنْ هو كالسيف الذي لا ينبغي أن يفارقك في السفر والحضر، ليلاً ونهاراً.

رؤيا

 قال أحمد بن يوسف الكاتب: لما أمرني المأمون بالكتابة إلى الآفاق في الاستكثار من القناديل في شهر رمضان، لم أدر كيف أكتب، فأتاني آتٍ في المنام وقال لي: اكتب: فإنَّ فيها أنساً للسابلة، وضياءً للمجتهدين، وتنزيهاً لبيوت الله من وحشة الظلم ومكامن الريب.

ذكاء غلام

 يقول الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: كنت على باب المسجد، فإذا شيخ على حمار، فقال لي: يا غلام، أمسك عليَّ هذا الحمار حتى أدخل المسجد فأركع. فقلت: ما أنا بفاعل أو تحدِّثني! قال: وما تصنع أنت بالحديث؟ واستصغرني فقلت: حدِّثني. فقال: حدثني جابر بن عبد الله، وحدثنا ابن عباس.. فحدثَّني بثمانية أحاديث. فأمسكت حماره، وجعلت أحفظ ما سرده عليَّ. فلما صلى وخرج قال: هل نفعك ما حدثتك به؟ فقلت: حدثتني بكذا، وحدثتني بكذا. فرددت عليه جميع ما حدثني به. فقال: بارك الله فيك، تعال غداً إلى المجلس، فإذا هو عمرو بن دينار رحمه الله.

الخميس، 7 يوليو 2016

وعد الأمير

قال مالك بن عمارة اللخمي: كنت أجالس في ظل الكعبة أيام المواسم عبد الملك بن مروان وقبيضة بن ذؤيب وعروة بن الزبير، وكنا نخوض في الفقه مرة وفي المذاكرة مرة وفي أشعار العرب وأمثال الناس مرَّة، فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبد الملك بن مروان من الاتساع في المعرفة والتصرف في فنون العلم وحسن استماعه إذا تحدَّثت وحلاوة لفظه إذا حدَّث، فخلوت معه في ليلة فقلت: ولله إني لمسرور بك لما شاهدته من كثرة تصرفك وحسن حديثك وإقبالك على جليسك، فقال: إن تعش قليلًا ترَ العيون طامحة إليَّ والأعناق نحوي متطاولة، فإذا صار الأمر إليَّ فلعلك أن تنقل إليَّ ركابك فلأملأنَّ يديك، فلما أفضت إليه الخلافة توجهت إليه فوافيته يوم الجمعة وهو يخطب على المنبر، فلمَّا رآني أَعرَض عني فقلت: لم يعرفني أو عرفني وأظهر نكره، فلما قُضيت الصلاة ودخل ثم ما لبث أن صرخ الحاجب فقال: أين مالك بن عمارة؟ فقمت، فأخذ بيدي وأدخلني عليه، فمد إليَّ يده وقال: إنك تراءيت لي في موضع لا يجوز فيه إلا ما رأيت، فأما الآن فمرحبًا وأهلًا، كيف كنت بعدي؟ فأخبرته فقال: أتذكر ما قلت لك؟ قال: نعم، فقال: والله ما هو بميراث ادَّعيناه ولا إرثٍ ورثناه، ولكن أخبرك مني بخصال سمت لها نفسي إلى موضع ما تراه، حيث إنني ما شمتُّ بمصيبة عدوٍّ قط، ولا أعرضت عن محدِّثِّ حتى ينتهي، ولا قصدت كبيرةً من محارم لله متلذذًا بها، فكنت آمَلُ بهذه أن يرفع لله منزلتي، وقد فعل. يا غلام، بوِّئه منزلًا في الدار، فأخذ الغلام بيدي وأفرد لي منزلًا حسنًا، فكنت في ألذ حال وأنعم بال، وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه، ثم دخل عليه في وقت عشائه
وغذائه فيرفع منزلتي ويُقْبِلُ عَليَّ ويحادثني ويسألني مرَّة عن العراق ومرَّة عن الحجاز حتى مضت لي عشرون ليلة، فتغذَّيت مرة عنده، فلمَّا تفرَّق الناس نهضتُ فقال: على رسلك فقعدت، فقال: أي الأمرين أحبُّ إليك؟ المقام عندنا أو الرجوع ولك الكرامة، فقلت: يا أمير المؤمنين، فارقت أهلي وولدي على أن أزور أمير المؤمنين وأعود إليهم، فإن أمرني اخترت رؤيته على الأهل والولد، فقال: لا، بل أرى لك الرجوع إليهم والخيار لك بعد في زيارتنا، وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار وكسوناك وحملناك، أتراني ملأت يديك؟ فلا خير في من ينسى إذا وعد.

المنصور والرَّجل

قال الرَّبيع (مولى الخليفة المنصور): ما رأيتَ رجلًا أربط جأشًا وأثبت جِنانًا من رجل سُعِيَ به إلى المنصور أن عنده ودائع وأموالًا لبني أمية فأمرني بإحضاره، فأحضرته إليه، فقال له المنصور: قد رُفع إلينا خبر الودائع والأموال التي عندك، فقال الرجل: أأنت وارث بني أمية؟ قال: لا، قال: أوُصِّيَ لك في أموالهم ورعاياهم؟ قال: لا، قال: فما مسألتك عما في يدي من ذلك؟
قال: فأطرق المنصور ثم تفكَّر ساعة ورفع رأسه وقال: إن بني أمية ظلموا المسلمين فيه، فاجعله في بيت أموالهم، قال: يا أمير المؤمنين، فتحتاج إلى بيِّنة عادلة أنَّ ما في يدي لبني أمية فما خانوا به ولا ظلموا، فإن بني أمية كانت لهم أموال غير أموال المسلمين،
قال: فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقال: يا ربيع، ما أرى الشيخ إلَّا قد صدق، وما يجب عليه شيء، وما يسعنا ألا أن نعفو عما قيل عنه، ثم قال: هل لك من حاجة؟ قال: أن تجمع بيني وبين من سعى بي إليك، فولله يا أمير المؤمنين ما لبني أمية عندي
مال ولا سلاح، وإنما أحُضرت بين يديك وعلمت ما أنت فيه من العدل والإنصاف واتباع الحق واجتناب المظالم، فأيقنت أن الكلام الذي صدر مني هو أنجح وأصلح لما سألتني عنه، فقال المنصور: يا ربيع، اجمع بينه وبين الذي سعى به، فجمع بينهما، فقال: يا أمير
المؤمنين، هذا أخذ لي خمسمائة دينار وهرب، ولي عليه مسطور شرعي، فسأل المنصور الرجل فأقرَّ بالمال، قال: فما حملك على السعي كاذبًا؟ قال: أردت قتله ليخلص لي المال، فقال الرجل: قد وهبتها له يا أمير المؤمنين لأجل وقوفي بين يديك وحضوري مجلسك، ووهبته خمسمائة دينار أخرى لكلامك لي، فاستحسن المنصور فعله وأكرمه وأعاده إلى بلده مُكرمًا، وكان المنصور كل وقت يقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ قط ولا أثبت من جِنانه ولا من حُجته، ولا رأيت مثل حِلمه ومروءته.

عين الحسود

قيل لعبد لله: كيف لزمت البدو وتركت قومك؟ قال: وهل بقي في الناس إلا من إذا رأى
نعمة بُهت وإذا رأى عثرة شمت، ثم أنشد:

عينُ الحَسود إليكَ الدَّهْرَ ناظِرَة ٌ... تُبْدي المساوئ َ والإحسانُ تُخفيهِ
يلقاكَ بالبِشْرِ يُبْديهِ مُكابَرَة ً... والقلبُ مُلتئمٌ فيهِ الذي فيهِ

ليتهم علموني كيف أبتسم

قال أبو العباس بن حماه الكاتب: قصدت أبا الجيش خمارويه بن أحمد بمصرممتدحًا له ببابه زمنًا لا أصل إليه، فرثى لي كل من عرف حالي، وأرُشدتُ إلى كُثَيِّرٍ المُغِنّي، فسِرتُ إليه وسألته أن يشفع لي فقال: ما جرت العادة أن أكلمه في أحد، ولكن إن قدرت أن تعمل شعرًا أقدمه أمام حضرته، فإن سألني عن قائله عرَّفته عن حالك ما يكون فيه عائد صلاح عليك، فعملت شِعرًا على البديهة ودفعه إليه وهو:

كتمتُ حُبَّهُمُ صَونا ً وتَكْرِمَة ً ... فما درى غيرُ إضماري بِهِ وَهُمُ
هُمْ علّموني البُكا لا ذقتُ فَقدُهُمُ ... يا ليتَهُمْ عَلّموني كيفَ أبتسمُ

فسرت إلى أبي الجيش وأنشدته إياها، فطرب وقال: لمن هذا الشِّعر؟ فقلت: لأبي العباس، فدعا به وأحسن جائزته.

ما خاب من استشار

قال الأسلي: ركبني دَيْن أثقل كاهلي، وطالبني به مستحقوه، واشتدت حاجتي، فضاقت بي الأرض ولم أهتدِ إلى ما أصنع، فشاورت من أثق به من ذوي المودة والرأي، فأشار عليَّ بقصد المهلَّب بن أبي صفرة بالعراق، فقلت له: يمنعني بُعد المسافة، ثم أني عدلت عن ذلك المشير إلى استشارة غيره، فلا ولله ما زادني عمَّا ذكره لي الصديق الأول، فرأيت أن قبول المشورة خيرٌ من مخالفتها، فركبت ناقتي وصحبت رفقة في الطريق وقصدت
العراق، فلما وصلت دخلت على المهلب فسلمت عليه وقلت له: أصلح لله الأمير، إني قطعت إليك الهناء وضربت بأكباد الإبل من يثرب، فقد أشار عليَّ ذوو الحجى والرأي بقصدك لقضاء حاجتي، فقال: هل أتيتنا بوسيلة أو قرابة وعشيرة؟ فقلت: لا، ولكني رأيتك أهلًا لحاجتي، فإن قمت بها فأنت أهل لذلك، وإن يحل دونها حائل لم أذمهم يومك ولم أيئس عندك، فقال المهلب لحاجبه: اذهب وادفع إليه ما في خزانة مالنا، فأخذني معه فوجد ثمانين ألف درهم فدفعها إليَّ، فلما رأيت ذلك لم أملك نفسي فرحًا وسرورًا وأعادني إليه
مسرعًا فقال: هل وصلك ما يقوم بسد حاجتك؟ فقلت: نعم أيها الأمير وبزيادة، فقال: الحمد لله على نجاح سعيك، واجتنائك جني مشورتك، وتصديق ظن من أشار عليك بقصدنا.
قال الأسلمي فلما سمعت كلامه وقد أحرزت صلته أنشدته وأنا واقف بين يديه:

يامَنْ على الجود صاغَ الله راحَتَهُ .. فليس يُحْسِن غير البَذْلِ والجُودِ
عَمَّتْ عطاياك مَنْ بالشرق قاطِبة ً.. وأنتَ والجودُ مَنْحُوتان من عُودِ
من استشار فباب النَجْحِ مُنْفَتِح ٌ.. لديه ما ابتغاهُ غيرُ مسدودِ

ثم عدت إلى المدينة ووفيت ديني ووسعت على أهلي وجازيت المشيرين عليَّ، وعاهدت لله تعالى أني لا أترك الاستشارة في جميع أمري ما عشت.

الحُسَّاد الثلاثة

حُكي أن ثلاثة من الحساد اجتمعوا، فتساءلوا عما بلغوه من الحسد، قال أولهم: ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيرًا قط لئلَّا أرى أثر ذلك عليه، وقال الثاني: أنت رجل صالح، أمَّا أنا فما اشتهيت أن يُفعل بأحد خيرًا قط لئلا تشير الأصابع بالشكر إليه، وقال الثالث:
ما في الأرضخير منكما، لكني ما اشتهيت أن يفعل بي خيرًا أحدٌ قط، فقالوا: ولِمَ؟ قال: لأني أحسد نفسي على ذلك، فقالا له: أنت ألأمنا جسدًا وأكثرنا حسدًا.

الضَّرائر

تزوَّج رجل من الأعراب امرأة ثانية على امرأته الأولى وكانت الثانية تمر على باب الأولى فتقول:

وما تستوي الرِّجْلانِ رِجْلٌ صحيحة.ٌ.. ورِجْلٌ رمى فيها الزمانُ فَشُلَّتِ

ثم مرت بعد أيام فقالت:

وما يستوي الثوبان ثوبٌ به البِلَى ... وثوبٌ بأيدي البائعين جديدُ

فخرجت إليها الأولى فقالت:

نَقِّلْ فؤادَك حيثُ شئتِ من الهَوى ... ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كَمْ منزلٍ في الأرض يَأْلَفُهُ الفتى ... وحنينهُ أَبَدا ً لأولِ مَنزلِ

أصحاب القبور

قال صدفة بن مرداس البكري: نظرت إلى ثلاثة قبور على مشرف من الأرض مما يلي بلاد طرابلس، وعلى كل واحد منها شيء مكتوب، وإذا هي قبور مُسنَّمة على قدر واحد مصطفة بعضها إلى جنب بعض ليس عندها غيرها، فعجبت منها ونزلت إلى القرية
القريبة منها، فقلت لشيخ جلست إليه: لقد رأيت في قريتكم عجبًا، قال: وما رأيت؟ فقصصت عليه قصة القبور، قال: فحديثهم أعجب مما رأيت، فقلت: حدثني بأمره، قال: كانوا ثلاثة إخوة، أحدهم أميرًا كان يصحب السلطان ويأمر على المدائن والجيوش،
والثاني تاجرًا موسرًا مطاعًا في ناحيته، والثالث زاهدًا قد تخلى بنفسه وتفرد لعبادة ربه، فحضرت المنية أخاهم العابد، فاجتمع عند أخواه، وكان الذي يصحب السلطان قد وُلِّي بلادنا هنا، وكان قد أمره عليها عبد الملك بن مروان وكان في إمرته ظالمًا غشومًا، فلما حضرا عند أخيهما قالا له: ألا توصي؟ قال: ولله ما لي مال أوصيبه، ولا لي على أحد دين فأوصي به، ولا أخلف من الدنيا شيئًا فأسلبه، فقال له أخوه الأمير: يا أخي، قل ما بدا لك وما تشتهيه أن يُفعل، فهذا مالي بين يديك فأوصِمنه بما أحببت واعهد إليَّ بما شئت لأفعله، فسكت عنه ولم يجبه، فقال أخوه التاجر: يا أخي، قد عرفت مكسبي وكثرة مالي، فلعل في قلبك حاجة من الخير لم تبلغها إلا بالاتفاق، فهذا مالي بين يديك فاحكم فيه بما أحببت لأنفذه لك، فأقبل عليهما وقال: لا حاجة لي في مالكما، ولكن أعهد إليكما عهدًا فلا يخالفني فيه أحد، قالا: اعهد، قال: إذا مت فغسِّلاني وادفناني على مشرف من الأرض واكتبا على قبري هذا الشعر: 

وكيف يلذُّ العيشَ من هو عالِمٌ ... بأن إلهَ الخلق لا بُدَّ سائِلُهْ


فيأخُذُ مِنهُ ظُلْمَه لعباده ... ويجزيْهِ بالخير الذي هو فاعِلُهْ

ثم قال: فإذا فعلتما ذلك فأتياني كل يوم مرة على ثلاثة أيام متوالية لعلكما تتعظان بي.
فلما مات فعلا ذلك، فكان أخوه الأمير يركب كل يوم في جنده حتى يقف على القبر فيقرأ ما تيسر ويبكي، فلما كان في اليوم الثالث جاء كما كان يجيء مع جنده فنزل وبكى، ولما أراد الانصراف سمع أنَّةً من داخل القبر كاد يتصدع لها قلبه، فقام مذعورًا فزعًا، فلما كان في الليل رأى أخاه في منامه فقال: يا أخي، ما الذي سمعته من داخل قبرك؟ فأجاب: أخُبرت أنك رأيت مظلومًا فلم تنصره ولكن استعد لملاقاتي، قال فأصبح مهمومًا، ودعا أخاه وخاصته وقال: ما أرى أن أخي أراد بما أوصانا أن نكتبه على قبره غيري، وإني أشهدكم أني لا أقيم بين أظهركم، وترك الإمارة ولزم العبادة، فكتب
أصحاب عبد الملك بن مروان إليه في ذلك فكتب أن خلُّوه وما أراد، فصار يأوي الجبال إلى أن حضرته الوفاة في الجبل وهو مع الرُّعاة، فبلغ ذلك أخاه، فأتاه وقال: يا أخي، ألا توصي؟ فقال: ما لي من مال فأوصي به، ولكن أعهد إليك عهدًا: إذا أنا مت وجهزتني
فادفنني بجانب أخي واكتب على قبري هذين البيتين:

وكيف يلذُّ العيشَ من كان موقِنا ً ... بأن المنايا بغتة ًستُعاجِلُهْ


فَتَسْلِبَهُ مُلْكَا ً عظيما ً ونِعْمَة ً ... وتُسْكِنَه القبرَ الذي هو آهِلٌهْ

قال: ثم توافيني ثلاثة أيام بعد موتي فادعُ لي لعل لله يرحمني.
فلما مات فعل به أخوه ذلك، فلما كان اليوم الثالث من إتيانه جاء على حسب عادته وبكى عند قبره، فلما أراد الانصراف سمع رجَّةً في القبر كادت تذهب بعقله، فرجع مقلقلًا، فلما كان في الليل إذا بأخيه قد أتاه في منامه، قال: فحينما رأيته وثبت إليه
وقلت: يا أخي، أأتيتنا زائرًا؟ قال: هيهات يا أخي، بَعُد المزار فلا مزار وقد اطمأنت بنا الدار، فقلت: كيف يا أخي؟ قال: ذاك مع أئمة الأبرار، قلت: وما أمرنا عندكم؟ قال: من قدَّم شيئًا من الدنيا وجده، فاغتنم وجودك قبل فقدك.
قال: فأصبح أخوه معتزلًا من الدنيا متخلفًا عنها، ففرَّق أمواله وقسَّم أرزاقه وأقبل على طاعة لله عز وجل، ونشأ له ابنٌ حسن الشباب والهيئة، فاشتغل بالتجارة، فحضرت أباه الوفاة فقال له: يا أبتِ، ألا توصي؟ قال: يا بني ما بقي لي مال لأوصيبه، ولكن إذا
أنا مت فادفنني إلى جنب عمومتك واكتب على قبري هذين البيتين:

وكيف يلذُّ العيشَ من هو صائِرٌ ... إلى جَدِثٍ تُبلي الشَّبابَ منازِلُهْ


ويَذْهَبَ حُسنِ الوجه من بعد موته ... سريعا ً ويَبْلى جسمه وقائِلُهْ

وإذا فعلت ذلك فقاعدني بنفسك ثلاثًا وادعُ لي، ففعل الفتى، فلما كان في اليوم الثالث سمع من القبر صوتًا اقشعر له جلده وتغيَّر لونه ورجع مصفرٍّا إلى أهله، فلما أتاه الليل أتاه أبوه في منامه وقال له: يا بني، أنت عندنا عن قريب، والأمر ناجز، والموت
أقرب من ذلك، فاستعد لسفرك وتأهب لرحلتك، وحوِّل جهازك من المنزل الذي أنت عنه ظاعن إلى المنزل الذي أنت فيه مقيم، ولا تغتر بما اغتَّر به قبلك الغافلون من طول آمالهم فقصَّروا عن أمر ميعادهم، فندموا عند الموت أشد الندامة، وأسفوا على تضييع العمر أشد الأسف، فلا الندامة عند الموت تنفعهم ولا الأسف على التقصير ينقذهم من شر ما يلقاه  المغبونون يوم الحشر، فبادر ثم بادر ثم بادر. فدخلت على الفتى ثاني يوم فقصها عليَّ وقال: ما أرى الأمر إلا وقد قرب، فجعل يوزع ماله ويتصدق ويقضي ديونه ويستحل من خلطائه ومعامليه، ويقول: قال أبي هي ثلاث « بادر ثم بادر ثم بادر » فإمّا أن تكون ساعات، فقد مضت أو ثلاثة أيام وأنَّى لي بها وما أراني أدركها، أو ثلاث سنين وهو أكثر ذلك، فلم يزل يقسم أمواله ويتصدق حتى إذا كان في اليوم الثالث من ليلة هذه الرؤيا دعا أهله فودَّعهم ثم أغمض عينيه ومات.

المسافر الحزين

قال عبد الواحد بن زيد: رأيت راهبًا وعليه مدرعة شعر سوداء، فقلت: ما الذي حملك لبس السواد؟ قال: هو لباس المحزونين وأنا من أكبرهم، فقلت له: ومن أي شيء محزون؟ قال: إني أصُبت في نفسي، وذلك أني مت لها في معركة الذنوب، فأنا حزين عليها، ثم
أسبل دمعة، قلت: وما الذي أبكاك الآن؟ قال: ذكرت ما مضى من أجلي ولم يحسن فيه عملي، فبكائي لقلة الزاد وبُعد المفازة وعقبة لا بدَّ لي من صعودها، ثم لا أدري أين تهبط بي على الجنة أم إلى النار؟ ثم أنشد:

يا راكبا ً يطوي مسافة عمره  .....  بالله هل تدري مكان نزولكا
شَمِّر وقُم من قَبْلِ حَطِّك في الثرى ..... في حفرة تُبْلَى بِطُول حلولكا

ثم أستأذنني وذهب لأنه صار وقت الصلاة فرجعت من حيث أتيت.

سعدون المجنون

قال مالك بن دينار: دخلت البصرة، فإذا أنا بسعدون المجنون فقلت له: كيف حالك؟ قال: يا مالك، كيف يكون حال من أصبح وأمسى يريد سفرًا بعيدًا بلا أهبة ولا زاد، ويقدم على رب عدل حاكم بين العباد؟ ثم بكى بكاء شديدًا، فقلت: ما يُبكيك؟ فقال:
ولله ما بكيت حرصًا على الدنيا ولا جزعًا من الموت والبلاء، ولكن بكيت ليوم مضى من عمري لم يحسن فيه عملي، أبكاني ولله قلة الزاد وبُعد المفازة والعقبة الكئود، ولا أدري بعد ذلك أأصير إلى الجنة أم إلى النار؟ فسمعت منه كلام حكمة فقلت له: إن الناس يزعمون أنك مجنون، فقال: وأنت اغتررت بما اغتر به بنو الدنيا؟ زعم الناس أني مجنون وما بي جُنة، ولكن حب مولاي
قد خالط قلبي وأحشائي وجرى بين لحمي وعظمي، فأنا ولله من حبِّه هائم مشغوف، فقلت: يا سعدون لِمَ لا تجلس الناس وتخالطهم؟ فأنشد يقول:

كُنْ عَنِ الناس جانِبا  ......  وارْضَ بالله صاحِبَا
قَلِّبِ الناسَ كيفَ شِئْتَ ..... تَجِدْهُمْ عَقارِبَا

عبدلله بن طاهر ورجل

وقف رجل لعبد لله بن طاهر في طريقه فناشده أن يقف له حتى ينشده ثلاثة أبيات،
فوقف وقال له: قل فأنشد:

إذا قيل أيُّ فَتىً تعلمون ..... أَهَشَّ إلى الضَّرْبِ بالذابلِ
وَأَضْرَبَ للقِرْنِ يومَ الوَغى ....وَأَطْعَمَ في الزمن الماحِلِ
أشارَتْ إليكَ أَكُفُّ الأَنامِ .... إشارَة َغَرْقى إلى ساحِلِ

فأمر له بخمسين ألف درهم وانصرف.

الراهب وحب الدنيا

قال عبد الواحد بن زيد: مررت بصومعة راهب من رهبان الصين، فناديته: يا راهب، فلم يجبني، فناديته ثانية فلم يجبني، فناديته ثالثة فأشرف عليَّ وقال: يا هذا، ما أنا براهب،
إنما الراهب من رهب لله عز وجل في سمائه وعظمه في كبريائه ورضي بقضائه وحمده على آلائه وشكره على نعمائه وتواضع لعظمته وذل لعزته واستسلم لقدرته وخضع لهيبته وفكر في حسابه وعقابه، فنهاره صائم وليله قائم، قد أسهره ذكر النار ومسألة
الجبار، فذلك هو الراهب، أما أنا فكلب عقور، حبست نفسي بهذه الصومعة لأبعد عن الناس لئلا أعقرهم بلساني.
 فقلت: يا راهب، ما الذي قطع الخلق عن لله عز وجل بعد
أن عرفوه؟
 فقال: يا أخي، لم يقطع الخلق عن لله عز وجل بعد أن عرفوه إلا حب الدنيا وزينتها لأنها محل الذنوب والمعاصي، والعاقل من رمى بها عن قلبه وتاب إلى لله من ذنبه وأقبل على ما يُقربه من ربه.

ذل المعصية وعز الطاعة

قال أبو علي الدقاق: ظهرت عِلَّةٌ ليعقوب بن الليث أَعْيَت الأطباء فقالوا له: في ولايتك رجل صالح يسمى سهيل بن عبد لله، لو دعا لك لعل لله سبحانه يستجيب له، فاستحضره وقال له: ادعُ لله سبحانه وتعالى لي، فقال سهيل: كيف يستجيب لله دعائي فيك وفي
حبسك مظلوم؟ فأطلق كل من كان في حبسه، فقال سهيل عندئذ: اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة، وخرج عنه فعوفي بعد مدة، واستدعى سهيل وعرض عليه مالًا فأبى أخذه.

نعم الصديق

يُحكى أن رجلًا أراد صحبة إنسان فسأل بعض أصدقائه عنه فأنشده:

كريمٌ يُميتُ السِّرَ حتى كَأنّهُ ..... إذا استخبروك عن حديثك، جاهِلُهْ
ويُبْدي لكم حُباًَ شديداً وهَيبة ً..... وللناسِ أشغالٌ وحبك شاغِلُهْ


قال مثل هذا ينبغي أن تناط بمحبته القلوب ويطلع على خفايا السرائر والغيوب.

الراهب

قال عمر البناني: مررت براهب في مقبرة وفي كفه اليمنى حصىأبيضوفي اليسرى حصى أسود، فقلت: يا راهب، ماذا تصنع هاهنا؟ فقال: إذا فقدت قلبي أتيت المقابر فاعتبرت بمن فيها، قال: وما هذه الحصى التي في كفك؟ قال: أما الحصى الأبيض فإذا عملت حسنة ألقيت واحدة منها في الأسود، وإذا عملت سيئة ألقيت من هذا الأسود واحدة في الأبيض، فإذا كان الليل نظرت، فإن زادت الحسنات على السيئات أفطرت وقمت إلى وردي، وإن زادت السيئات على الحسنات لم آكل طعامًا ولم أشرب شرابًا في تلك الليلة، هذه هي حالتي والسلام.

معافىً ومبتلى

مرضعمر بن العلاء فدخل عليه رجل من أصحابه فقال له: أريد أن أساهرك الليلة قال له: أنت معافى وأنا مبتلى، فالعافية لا تدعك  تسهر والبلاء لا يدعني أن أنام، وأسأل الله أن يهب لأهل العافية الشكر، ولأهل البلاء الصبر.

مُعلِّم المُعلِّم

قال عمر بن عتبة لمعلم ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك؛ فإن عيونهم معقودة بعينيك، فالحسن عندهم ما أحببت والقبيح عندهم ما تركت، علمهم كتاب الله ولا تُملُّهم منه فيتركوه ولا تتركهم فيه فيهجروه، روِّهم من الحديث أشرفه ومن الشعر
أعفه، ولا تنقلهم من عِلم إلى علم حتى يُحكموه؛ فإن ازدحام الكلام في القلب مشغل للفهم، وعلمهم سنن الحكماء وجنبهم محادثة السفهاء، ولا تتكل على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك.

كاتب ونديم

فاخر كاتب نديمًا فقال: أنا للجد وأنت للهزل، أنا للحرب وأنت للسلم، أنا للشدة وأنت للذة، فقال له نديم: أنا للنعمة وأنت للخدمة، أنا للحضرة وأنت للمهنة، تقوم وأنا جالس، وتحتشم وأنا مؤانس، تذوب لراحتي وتشقى لما فيه سعادتي، وأنا شريك وأنت معين،
كما أنك تابع وأنا قرين.

عدي بن حاتم وابنه

حُكي أن عدي بن حاتم الطائي أقام مأدبة فقال لولده - وكان صغيرًا -: يا ولدي، أقم على الباب، وأذن لمن تعرف وامنع من لا تعرف، فقال: ولله لا يكون أول شيء وليتُه من أمر الدنيا مَنْعُ أحدٍ عن طعام، فقال عدي: واللهِ يا ولدي أنتَ أكرم مني وأفطن، افتحوا
الباب لمن شاء فليدخل.

الثقيل والدواء

قيل لمحمد بن زكريا الرازي: أيهما أَمَرّ؟ الثقيل المُبْرِم أم شُرْب الدواء الكريه الرائحة المر الطعم؟ فقال: ما أَكَسبَ الدواء إنْ أعقبه الشفاء، فإن مجالسة الثقيل تُجلب الإسقام وتحل الأجسام وتورث الأحزان وتؤلم الأبدان وتهدُّ الأركان، وشرب الدواء يجلو الأجسام
ويحلل الإسقام ويدفع الأحزان وينشط الكسلان ويقوي الأبدان.

إكرام النفس

قال الأصمعي: اجتزت في بعض سكك الكوفة، فإذا برجل قد خرج من الحي وعلى كتفه جَرَّة وهو ينشد ويقول:

وأُكْرِمُ نَفسي إنني إِنْ أَهنُتها ...... وَحَقِّكَ لَمْ تَكْرُمْ على أَحَدٍ بَعْدِي

فقلت له: تُكْرِمُها بمثل هذا، فقال: نعم، وأستغني عن سفيه مثلك إذا سألته يقول صفح لله لك، فقلتُ: تراهَُ عَرَفني؟، فأسرعتُ فصاح بي يا أصمعي، فالتفت إليه فقال:

لَنَقْلُ الصَّخْرِ مِنْ قُلَلِ الجِبالِ....... أَحَبُّ إليَّ مِنْ مِنَنِ الرِّجالِ
يقولون كَسْبٌ فيهِ عارٌ ............. وكَلُّ العارِ في ذُلُّ السُّؤالِ

مروءة ابن جعفر

كان عبد لله بن جعفر من الأجواد الذين يعمون بجودهم طوائف العباد، فانتهى به إلى الإفلاس وضيق عليه، إلى أن سأله رجل فقال له: إن حالتي متغيرة بجفوة السلطان وحوادث الزمان، ولكنني أعطيك ما أمكنني، فأعطاه رداء كان عليه، ثم دخل منزله
وقال: اللهم استرني بالموت، فما مر بعد دعوته إلا أيام حتى مرض ومات.

أكرمُ الأمة

دخل جُعَيْفِرَان - واسمه جعفر بن علي - على أبي دُلَف* فأنشده:

يا أكرمَ الأُمَّةِ مَوجودا  .......  ويا أعزَّ الناسِ مَفقودا
لمّا سألتُ الناسَ عن سَيِّدٍ ..... أصبحَ بين الناس مَحمودا
قالوا جميعاً إنه قاسمٌ .....      أشبهَ آباءً له صِيْدَا
لو عبدَ الناسُ سِوى رَبِّهِم ..... لكنتَ في العالَمِ مَعبودا


فقال له: أحسنت يا غلام، أعطه ألف درهم، فقال: أيها الأمير، وما أصنع بها؟ مر الغلام يأخذها ويعطيني منها كل يوم عشرة دنانير إلى أن تنفد، قال أبو دلف: أعطوه الألف، ومتى جاء أعطوه ما سأل، فأكبَّ جعيفران على يديه يقبلهما وخرج شاكرًا حامدًا.


* أبو دُلف العجلي واسمه القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل العجلي قائد عباسي في زمن المأمون والمعتصم وهو شاعر وأديب. وكان أمير الكرخ، وسيد قومه، وأحد الأمراء الأجواد الشجعان الشعراء.
ولقد قلده الخليفة العباسي هارون الرشيد أعمال "الجبل" ثم كان من قادة جيش المأمون. وكان من العلماء بصناعة الغناء، ويقول الشعر ويلحنه، وتوفي في بغداد سنة ٢٢٦ هـ

هبة يزيد بن مزيد

قال بعضهم: كنا مع يَزيد بن مَزيد، فإذا نحن بصارخ في الليل ينادي قائلًا: يا يزيد بن مزيد، فقال يزيد: عليَّ بالصَّارخ، فلما جيء به قال له: ما حملك على النداء بهذا الاسم؟
فقال: نفقت دابتي ونفدت نفقتي وسمعت قول الشاعر فتمنيت به، فقال له: وما قال الشاعر؟ فأنشده:

إذا قِيلَ مَنْ للمَجْدِ والجُودِ والنَّدى .... فنادِ بِصَوْتٍ يا يزيدَ بنَ مَزيدِ 

فلما سمع مقاله هشَّ له وقال: أتعرف يزيد بن مزيد؟ قال: لا …قال: أنا هو يزيد، وأمر له بفرس أبلق كان مُعجبًا به وبألف درهم.

يد بيضاء

أُتي إلى روح بن حاتم برجل كان متلصصًا في الطريق، فأمر بقتله فقال: أصلح لله الأمير، لي عندك يد بيضاء، قال: وما هي؟ قال: إنك جئت يومًا إلى مجمع موالينا والمجلس حافل، فلم يتحفَّز لك أحد، فقمت من مكاني، ثم جلست فيه، قال ابن حاتم:
صدق، وأمر بإطلاقه، وولَّاه تلك الناحية وضمَّنه إياها.

كم عمرك؟

قال رجل لهاشم بن القرطي: كم تعد؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأكثر، قال: لم أرد هذا، قال: فما أردت؟ فقال: كم تعد من السن؟ قال: اثنين وثلاثين سنٍّا من أعلى وستة عشرمن أسفل، قال: لم أرد هذا؟ قال: فما أردت؟ قال: كم لك من السنة؟ قال: ما لي منها
شيء، كلها لله عز وجل، قال: فما سنُّك؟ قال: عَظْم، قال: فابن كم أنت؟ قال: ابن اثنين، أب وأم، قال: فكم أتى عليك؟ قال: لو أتى عليَّ شيء لقتلني، قال: فكيف أقول؟ قال: قل  كم مضى من عمرك؟ فقال له : كم مضى من عمرك؟ فأجابه هاشم :وما شأنك أنت بعمري؟ فأحرج الرجل.

ذكاء بهلول

مرَّ بهلول بقوم في أصل شجرة يستظلون بفيئها، فقال بعضهم لبعض: تعالوا حتى نسخر على بهلول، فلما اجتمعوا به قال أحدهم: يا بهلول، تصعد هذه الشجرة وتأخذ من الدراهم عشرة، قال: نعم، فأعطوه الدراهم، فصرَّها في كمه ثم قال: هاتوا سلمًا، فقالوا:
لم يكن في شرطنا سلم، قال: إن شرطي هو دون شرطكم.

الأذكياء في مجلس عمر

كان زياد جالسًا بمجلس عمر، فأملى عمر على كاتبه كتابًاسرٍّا، فكتب الكاتب خطأ، فقال
زياد: يا أمير المؤمنين، إنه كتب غير ما أمليته، فتناول عمر الكتاب فوجد الأمر كما قال
زياد، فقال عمر لزياد: من أين علمت هذا؟ قال زياد: سمعت كلامك ورأيت حركة قلمه
فلم أرَ بينهما اتفاقًا